السبت، 12 مارس 2011

وداعا للعقل السياسي وألف أهلا بالجنون بشار زيدان

في خضمّ المخاض الثوري الذي يشهده الوطن العربي في هذه الأيّام المباركة.. يجد المرء نفسه عاجزاً عن ترك جهاز التحكّم عن بعد (الريموت كنترول) والإمساك بالقلم، فتسارع الأحداث المفصلية وعدوى الثورات الشعبية مازالا أسرع من قدرة أقلامنا على مواكبتهما، وأكبر من أن تستوعبهما أشد أحلامنا جموحاً، مع أنّنا ظننّا مخطئين يوماً أن الحبر المسال لن يغيّر شيئاً، لكن الدم الذي سال في تونس ومصر، ويسيل في ليبيا، غيّر معادلات وحسابات أشد ديكتاتوريات الوطن العربي صلافة، وأشعل النار في عروش من ورق.
أكتب الآن وأنا أتابع ثورة الشعب الليبي العظيم، أحفاد شيخ الشهداء وأسد الصحراء عمر المختار، وأرجو أن ينتصر الشعب ويسقط السفاح الطاغية المجنون معمّر القذّافي قبل أن تجد هذه السطور طريقها للنشر.
أردت أن أشكر الشعب التونسي سابقاً على تحقيق ما بالغت في التفاؤل به، في مقالتي التي نشرتها 'القدس العربي' صباح اليوم الذي تأبّط فيه بن علي نعليه وهرب من تونس الخضراء، بحثاً عن منفىً يقبل به، فعاجلتني جماهير أرض الكنانة بثورتها المجيدة، فوجدت من الأولى أن أُعسكر على أبواب السفارة المصرية هنا، من أن أكتب كلاماً فيهم، وكم أبكتني هذه الثورة المجيدة فرحاً، كما بكيت مراراً من عدمها، وسقط سجّان غزّة وأبو جهل 'موقعة الجمل' في ميدان التحرير، وميدان الشرف والكرامة، وأبى إلا أن يرحل مهاناً مرغماً وذليلا..
لكن مقالتي اليوم ليست لمناقشة أسباب هذه الثورات المجيدة، ونتائجها، وانعكاساتها الدولية، فقد استفاض كَتّاب مخضرمون في تفنيدها، وانبرت أقلام شريفة لتمجيدها، لكنني أَخصّص قلمي المتواضع اليوم لشكر وذكر أسماء بعض الأشخاص العاديين البسيطين، الذين أعتقدهم البعض مجانين، والذين لم يكن لهذه الثورات أن تكون لو لم يكونوا، ولإبراز دور نشاطاتهم و'جنونهم' وأعمالهم التي يعتقدها البعض صغيرة، لكن نتائجها كانت 'ثورية' بكل ما تحمل الكلمة من معاني.
ولا يمكن لي إلا أن أبدأ بأبي الثورة، محمد البوعزيزي، التونسي الجامعي بائع الخضار، الذي يدين كل شريف في هذا الوطن العربي الجديد من البحر إلى البحر، لكل قطعة لحم محروقة من جسده الطاهر، فقد أشعل شعلة الثورة التي لن تنطفئ وكان جسده الوقود.
وائل غنيم، الشاب المصري الثلاثيني، مهندس الحاسوب، الذي أذكى نيران هذه الأنتفاضة الشعبية بمفاتيح حاسوبه، حتى استحق لقب 'ثائر الكيبورد'.
أسماء محفوظ، ناشطة بحركة شباب 6 أبريل، تملك من العمر 26 عاماً، كان الفيسبوك هو ميدانها، والمظاهرات السلمية هي نشاطاتها، لكنها بحيويتها وحماسها وحبّها لمصر، قهرت حسني مبارك وأزلامه.
إسراء عبد الفتاح فتاة مصرية ثلاثينية، اعتقلت عدة مرّات من قبل نظام الطاغية مبارك فقط لأنها تأبى الذل، حتّى أنّ قوات الأمن المصرية اعتقلتها في 15 يناير 2010 فقط لأنها كانت تؤدي واجب العزاء لضحايا مذبحة نجع حمادي.
عاطف الأطرش، هذا الكاتب الصحافي الليبي الذي اختطفه المجرم القذافي لأنه كسر جدار الصمت وأجرى مكالمة مع قناة الجزيرة، وليس معلوماً مصيره حتى الآن.
النقيب ماجد جمال بولس، قائد الكتيبة المصرية التي رابطت في مدخل شارع طلعت حرب، الذي تصدى لمحاولة هجوم البلطجية يوم الأربعاء الدامي على ميدان التحرير من الخلف، والذي طمأن جماهير ميدان التحرير بأن الطائرات التي تحلق منخفضة ليست لاخافتهم، وانما هي إجراء روتيني لطمأنة القوات البرية على الارض، وأكد أنّ تلك الطائرات لا يمكنها أن تطلق صواريخها على الميدان لأنها في هذه الحالة ستقتل كل من فيه، سواء كانوا متظاهرين أو عسكريين.. وقال لهم بالحرف: 'إذا حدث ذلك سأقتل نفسي'.
الأبطال والجنود المجهولون كَثر، وكل شخص فيهم يستحق على الأقل الشكر الشخصي ولو بمقالة متواضعة من كاتب يتمنّى لو تسنّى له أن يكون معهم.
خالد سعيد، لينا بن مهني، سفيان الشورابي، ياسين العياري، حسين صادق المصراتي، زياد كلوت، الرائد أحمد شومان، الطالبة آلاء فرج، طل الملوحي، وهي مدونة سورية حُكم عليها قبل عدّة أيّام بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة لفقت لها وهي إفشاء معلومات لدولة أجنبية وكونها جاسوسة منذ خمس سنوات (طل الملوحي تبلغ من العمر الآن 19 عاماً)...
الأسماء لا تنتهي، وكل من يجهل أيّا من الأسماء أعلاه عليه البحث عنها، وكلّها لأناس عاديين، ليسوا سياسيين أو دبلوماسيين أو رجال أعمال، هم فقط أشخاص لم يمت كبرياؤهم، ولم تلتبس ولاءاتهم، فحاولوا أن يفعلوا شيئاً ونجحوا، مثل كثيرين قبلهم، اعتقد البعض أنهم فشلوا ولم يعلموا أنّهم أسّسوا لنجاحات هذا الجيل، أمثال سعد حلاوة (مجنون مصر الجميل) وعبدالحميد شتا وتيسير السبول وناصر بن سعيد وآلاف غيرهم، رصفوا أجسادهم جسراً لأحرار هذا الجيل نحو انتزاع حرية طال انتظارها تحت حكومات الكتبة.
أكتب سطوري السالفة لكي أقول للجميع بأن علينا جميعاً، أن ننخرط في النضال، من أجل خلاصنا المشترك، ما من أيدٍ نظيفة، ما من أبرياء، ما من متفرجين، إننا جميعاً، نغمّس أيدينا، في وحل أرضنا، وكلّ متفرّج، هو جبان، أو خائن، كما قال عمر أميرالاي الذي غادرنا قبل أن يشهد اللوحة النهائية للوطن العربي الذي يرسمه ثوّارنا الآن كما كان يتصوّره بل أفضل.
لم يعد هناك الآن عذر لأيّ شخص بأنه لا يستطيع فعل شيء، فبائع الخضار ابتدأ الثورة، ولم يعد هناك مكان للمتخاذلين، أجمل ما في هذه الثورات أنّها غربلت جماهير وطننا العربي الكبير، فأنت إما معها أو ضدّها، ليس هنالك بين بين، وأنّها أعادت الأمل لمن كان على وشك أن يبلغ به اليأس مبلغه وبشدّة، وأعادت اللَحمة بين أبناء الوطن العربي الكبير، حيث تجــــد اعلام الجزائر في شوارع مصر، واعلام تونس في ميادين عمّان، واعلام مصر في اليمن، واعلام البحرين في رام الله، ومجمــــوعات الشـــباب العربية تتآزر مع كل ثورة عبر الانترنت والمظاهـــرات والاعتصامات، فذابت كل الحواجز وتهاوت كل الأسوار التي لم تألُ جهداً هذه الأنظمة المتهاوية في نصبها على مدى عشرات السنين الماضية، في ثوان.
لم أعتقد حقّــــاً بأنني سأكون محظــــوظاً بمعاصــــرة ما يحدث الآن، وبأن جيلي الذي نشأ وترعرع معظمه تحت نفــــس الطغاة الذين يتساقطون كالثمــــر الفاســـد الآن، سيكون هو الجيل الذي يهزّ جذع الشجرة، لكن هؤلاء الأبطال جعلــــوا الــــحلم يُلمس باليدين، وأضحوا الآن يعطون دروساً في الثورة والكرامة للعالم الذي أعتقد أن العرب قد سقطوا من متن التاريخ لحاشيته، شكراً لأنكم أمطرتمونا بطولة وشموخا... شكراً وألف شُكر.
تتكاثر الأفكار في رأسي ولا أستطيع ترجمتها لكلمات، ربّما بسبب مزيج المشاعر الفرحة والغاضبة والحزينة والسعيدة، والأمل، حيث أنّي أرى فلسطين الآن على بُعد أمتار، لكن الشعور الأكيد هو الفخر، الفخر لكوني عربيّا بحق، وليس تعصّباً وتعّلقاً بأمجاد خلت كما كُنت قبل عدّة أسابيع، ولعمري أنّي أكاد أسمع صوت جمال عبدالناصر وعبدالقادر الجزائري وعزالدين القسام وأمين الحسيني وصلاح الدين الأيّوبي يتردد في جنبات الوطن العربي، وطني العربي...

' كاتب فلسطيني مقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق